الحنين إلى الماضي… تشبث بالحياة

جعفر عالم أحمذي

يشد الإنسانَ إلى ماضيه خيط سِري وحبل سُري يجعلانه مدمنا للحنين إلى الماضي مقيما على استدعاء الذكريات، حالة الحنين هذه يعتبرها علماء النفس من الحيل الدفاعية التي يلجأ إليها العقل الباطني لحماية الإنسان من التوتر والتقليل من الضغوط النفسية، إذ بمجرد أن تبدأ المشاعر السلبية في الظهور يقوم العقل لا شعوريا باستدعاء ذكريات الماضي الإيجابية لتزوده بشحنة من الدفيء والتفاؤل للتعامل مع حالة الإحباط الحالية.

يكثر المرضى والمسنون غالبا من استدعاء الذكريات والحديث عن أيام الصحة والشباب مواجهةً لتأثيرات المرض وثورة ضمنية على آثار الشيخوخة، فرارا من الموت وتشبثا بالحياة هذا العفل اللاشعوري الذي يصدر عنا بشكل عفوي يندرج تماما في إطار مواجهة المشاعر السلبية التي تسيطر أحيانا على الإنسان في لحظات الضعف والاحباط

مدركون نحن جميعا أن الحياة جسر وأن أعمارنا “الافتراضية” هي المسافة، الفاصلة بين الحياة والموت أعمارنا التي مهما بلغت من الطول لن تزيد على المائة بكثير عابرون نحن لهذا الجسر، متفاوتون فوقه حسب أعمالنا وأعمارنا أمراضنا وآجالنا “ولكل أجل كتاب”، فالميتون منا عبروا الجسر بشكل نهائي، فأنهوا رحلة الوجود وأنهتهم رحلة الوجود، وصلوا إلى شاطئ الأبدية (البرزخ) ولفظتهم سفن الحياة ونحن سائرون في ذات الطريق، صائرون إلى ذات المصير، وكلما تقدم بنا العمر كلما اقتربت نهاية المسافة وتراءت لحظة العبور النهائي، مجبرون نحن على السير الدائم، والعبور المستمر، تحدونا الأيام والليالي في رحلة الحياة السريعة القصيرة، يهش علينا الزمن بعصا الرحيل لنغذ السير رغما عنا فلا يبقى أمامنا من العزاء والسلوان إلا أن نخادع الزمن ونخدع أنفسنا، فنرجع البصر كرتين ملتفتين إلى الماضي، مفتشين في حقائب الذكريات عنا وعن ماضينا الذي نغالب النسيان لنحافظ عليه أو على جزء يسير منه.

في كل مرة عندما نفتح حقائب الذكرى لنفتش عن براءة الطفولة وشقائها الجميل، عن نشاط المراهقة وطيشها البريئ، عن لذة الشباب وفورة القوة والعطاء، عن نضج الكهولة وحصاد التجربة، عن ثنائية التأثر بالحياة والتأثير فيها، عن كل لحظة “باقية” في الوجدان، عن كل موقف ظريف أوطريف مر بنا، عن مواقفنا الخالدة، عن الأصدقاء والصداقات عن العلائق والعلاقات عن حبنا الحلو وأشيائنا الجميله.

هذا الحنين المستمر إلى الماضي واستدعاء الذكريات الدائم الذي نتسلى به مؤقتا، وندمنه أكثر كلما تقدمت بنا السن هو نوع من الإصرار المستمر على الحياة والهروب المستمر من هاجس الموت المخيف وشبح الفناء الحتمي، هو نوع من التشبث اللاشعوري بالبقاء، فالماضي الذي نستدعيه ونحنُّ إليه ذكريات وأطيافا وأخيلة، قد لا يكون جميلا كله، ما يضفي عليه ألق السحر ومسحة الجمال هو أن نراه بعيون حاضرنا “الواقعي”

مع أننا مدركون تماما حقيقة الوهم الذي نعيشه والخداع الذي نمارسه على ذواتنا فنحن مصرون بكل ما نملك من قوة الإدراك، وسعة التّخيُّل، وطاقة الشعور والشاعرية على استدعائه والإفراط في الحديث عنه وعنا فيه، لأننا نستمد منه طاقة نواجه بها قساوة الواقع وضغط الحياة، ونتغلب بها على ضعفنا وخوفنا من المستقبل، وعلى هاجس الرحيل الذي يسكننا، فالماضي يعني للإنسان الكثير والكثير ففي طياته كل صحة وهناء كل سعادة وصفاء كل لذة وشباب كل قوة وجمال.

هذا الكم الهائل من الأشياء الجميلة التي مرت بنا في بداية العمر فأودعناها حقيبة الذكريات تجعلنا نرى الماضي من زاوية مختلفة، نرى من خلالها بداية الجسر، ومحطات الرحلة الأولى، بل ترينا عشرات الدورب المؤدية إلى الصحة والسعادة والفرح والهناء والغنا والنجاح والأمل وإشراق المستقبل،

هذه الدروب المتعددة المفتوحة على الأمل تجعلنا ننسى مؤقتا درب العجز والمرض والشيخوخة الذي نخطو خطواتنا الأولى فيه، ذلك الدرب المؤدي إلى نهاية الجسر وانتهاء الرحلة العابرة، والدخول في الرحلة الأبدية التي نفر – لا شعوريا – من سببها الحتمي.

زر الذهاب إلى الأعلى