الثلج بمعنى الدفء

سمير عطا الله

الذين في مثل سني تتداخل متغيراتهم البيولوجية بتحولاتهم النفسية. يقلّ عدد أعدائهم، وخصومهم، ويقابل هذه النعمة القلة. كذلك في عدد الأصدقاء والمعارف لأن جَلَده الكبير يضعف، وتسرّع الكبار لا يمهل. ومن جملة، أو بالأحرى في طليعة خصوم السن، البرد شعوراً ونازلةً، وقد تجنبتُ في الآونة الأخيرة زيارة أحب الأمكنة إلى قلبي، أي لندن، لأن المناخ تغيّر في كل مكان إلا في مدينة الملكة إليزابيث. فالشمس لا تزال تشرق في العاشرة صباحاً، وتطفل، أي تميل إلى المغيب، في الحادية عشرة، وعند الضحى تكون قد هاجرت إلى منقلب آخر لا نستطيع اللحاق به.

أعرف تماماً أن اللجوء إلى الشمس على مدى العام بطوله، وعكس الحياة العربية وجذورها، وما حملت سنواتها من القيظ، والحر، والصحاري اللانهائية. تشهّى العرب وتمنّوا لطف الفيء وإطالة الظلال. وجعلوا من الثلج ذروة المديح والأماني. فإذا أراد أحدنا أن يصفَ فرحاً لا يعادله فرح، قال سمعت اليوم نبأً أثلج صدري. مع العلم أن العرب نادراً ما عرفت الثلج حتى في جبالها، ومع ذلك قدّمته على ملاطفتها للقمر، الذي هو الوعد الدائم بالحرارة العادلة، ورمز الشعور بالنور والضوء معاً، بينما الشمس تنير بلا حساب وتحرق أيضاً بلا حساب.

أمضيتُ معظم السنة الفائتة لاجئاً مناخياً في دبي، وكانت الرطوبة الشديدة تكثر أحياناً معاني اللجوء، غير أنها ظلّت، في العموم، أرحم من مغيبات لندن، التي لا يصح فيها القول الشائع «وضح النهار»، لأن نهاراتها جميلة وغائمة معاً.

تقول العرب فيما تقول: «حديثها أثلج كبدي»، أو «نزل على فؤادي برداً وسلاماً». وفي باب الترحم «برّد الله ضريحه وأمطره شآبيب الرحمة». وفي الذكريات الجميلة يتأوه أحدنا قائلاً: «سقى الله تلك الأيام». وكثُرت حتى فاضت عند الشعراء التغزل بالظل والمنهل والمورد والينبوع والندى. غني عن التذكير بأن شعراء الفرنج والقارات الباردة تشهوا الدفء والشمس التي لا تغيب، وانطلقت شعوبهم من مواطنها إلى مواطن الآخرين طلباً لدرجتين أو ثلاث إضافية على ميزان فهرنهايت. وهذا ما حدث بالنسبة إلى مئات الآلاف من الأوروبيين الذين استوطنوا دبي، التي لا تقتصر ميزاتها بالتأكيد على أشهر الدفء.

نقلا عن الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى