حمدوك و«بندول» وحدة السودان وتقسيمه

د. حسن أبو طالب

التقيت الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس وزراء السودان السابق، ثلاث مرات في القاهرة، مع مجموعة من المهتمين بالشأن السوداني، إحداها حين كان في منصبه التنفيذي رئيساً للوزراء قبل تغييرات أكتوبر (تشرين الأول) 2022، واثنتان حاملاً لواء «حركة تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية» (تقدم)، ومعه عدد من أعضائها، حين حلّ الوفد على القاهرة ضيفاً بدعوة من الحكومة المصرية للتشاور حول سبل وقف الحرب في السودان، واستعادة الزخم للمبادرات السلمية.

في المرة الأولى في مارس (آذار) 2024 تحدث الرجل بصفته مسؤولاً تنفيذياً رفيع المستوى عن بعض تطلعاته في أن يصبح السودان دولة مدنية حديثة ذات علاقات تعاونية مع جيران السودان من العرب والأفارقة، وأن تنتهي المرحلة الانتقالية بقيادة مجلس السيادة ورئاسة عبد الفتاح البرهان كما هو مخطط لها في حدود العام ونصف العام. الأحلام والتطلعات التي عبَّر عنها الرجل عكست آنذاك إيمانه بأن مستقبل السودان مرتبط أساساً باحترام سيادته ووحدته، وباحترام الطابع التعددي الذي يحكمه منذ الأزل، ورفع العقوبات عن بلاده، وتطوير علاقات السودان مع دول الجوار ومنها مصر، بعد مناقشة صريحة للإشكاليات التي تحيط بها.

كان الحديث مملوءاً بالتطلعات نحو سودان جديد متصالح مع نفسه ومع المحيطين العربي والأفريقي حوله. لم تمر سوى أسابيع محدودة، وخرج الرجل من مركز السلطة إلى خارجها، وبعد فترة وجيزة اندلعت الحرب الضروس بين قطبي الهيكل العسكري، الجيش من ناحية و«الدعم السريع» من ناحية أخرى، وهي الحرب التي تفرض إشكاليات عميقة حول كيفية إنقاذ السودان من بعض سياسييه والمتحكمين في صنع القرار، وأولى خطواتها تكمن في وقف الحرب، وحماية المدنيين ومحاسبة المنتهكين لحقوق المواطن السوداني، ثم تأسيس هيكل حكم يشارك في بنائه الجميع، يحمي سيادة البلاد ومواردها.

تلك كانت الأجواء العامة التي أحاطت بزيارة حمدوك رئيساً للوزراء. تغيرت الظروف والتطورات منذ اندلاع حرب أبريل (نيسان) 2023، حين قامت «قوات الدعم السريع» بالاعتداء على مطار مروى أبريل 2024، حيث كانت بعض القوات الجوية المصرية في زيارة تدريبية للمطار مع نظرائهم السودانيين، وامتد الاعتداء إلى الكثير من الأصول السودانية، والمؤسسات والمناطق السكنية. المثير هنا أن خطاب «الدعم السريع» حاول أن يربط تلك الاعتداءات غير المبررة بأنها خطوة استباقية لمنع القوات المسلحة من محاصرة قواعد «الدعم السريع» التي انتشرت في أماكن متعددة في الخرطوم وأم درمان وغيرهما من المدن. تمتد الإثارة في ربط هذه الاعتداءات بكونها خطوة ضرورية لإنهاء سيطرة الجيش على مفاصل الدولة والتحول إلى حكم مدني خالص.

من يتابع نشأة «الدعم السريع» منذ أن كانت معروفة باسم «الجنجويد»، ثم إضفاء صفة رسمية عليها كأحد مكونات القوات المسلحة في أواخر عهد البشير، ثم لها وضع خاص يتسم بالاستقلالية عن القيادة العليا للقوات المسلحة السودان بعد ثورة الشباب السوداني، ثم شريكة في إدارة البلاد عضواً رئيسياً في مجلس السيادة، لا بد له أن يشكك تماماً في أي طرح لـ«الدعم السريع» كونه يسعى إلى حكم مدني خالٍ من فلول نظام البشير، وهو الاتهام الذي توجهه قوى سياسية مناهضة للجيش السوداني، وتعتبر مناصرة «الدعم السريع» وفقاً لمقولاتها الدعائية، امراً مشروعاً.

عودة إلى لقاء السيد عبد الله حمدوك في مارس 2024، بدعوة من الحكومة المصرية ومعه وفد من «تقدم». ففي اللقاءين استمعنا إلى حديث حمدوك وعدد من ممثلي القوى الشريكة في «تقدم»، كان جُل الحديث منصبَّاً على مشروعية مناهضة الجيش باعتباره المركز الرئيسي للحركة الإسلامية، أبرز فلول نظام البشير، لكنه ربط تلك المناهضة بالأساليب السياسية، على أن يكون الأمر برمته ضمن تصور شامل لاستعادة الحياة المدنية، وأن يعود الجيش إلى ثكناته ووظيفته الأم في الدفاع عن الوطن.

بعض أعضاء الوفد، خصوصاً من قيادات «الحرية والتغيير»، كانوا أكثر وضوحاً، فهم يرون الجيش هو سبب أزمة السودان، وتحالفه معهم لمواجهة «الدعم السريع»، أضاف تعقيدات جمّة للحالة السودانية. وأن «الدعم السريع» ليست مسؤولة عما انتهت إليه أزمة البلاد، لا سيما استمرار الحرب وانتهاك حقوق السودانيين، وهجرة الملايين من أبنائهم إلى بلاد شتى. وأخيراً، لا بد من الوقوف وراء أطروحات «الدعم السريع» الداعية إلى إخراج الجيش من المشهد السياسي.

مثل هذه المداخلات، عبَّرت عن مزاج أعضاء بارزين في «تقدم»، وكيف أن «تقدم» ذاتها تميل إلى التحالف مع «الدعم السريع»، لتصبح المنبر السياسي الداعي إلى أطروحاتها. لم يعبّر حمدوك عن رفض مثل تلك المداخلات التي اتسمت بالحماسة الشديدة، لكنه علَّق على الأمر بأن «تقدم» تمثل وجهات نظر متعددة، ومع ذلك فجميعهم يتفقون على أهمية استعادة الحكم المدني للبلاد.

في اجتماعات عنتيبي الأوغندية لقوى «تقدم» مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تطورت أطروحات بعض قوى الحركة إلى المناداة بتشكيل حكومة سودانية في المنفى، خطوةً لكسر جمود الحرب، وأن تنهي هذه الحكومة الجديدة شرعية الحكومة التي يسيطر عليها الفريق البرهان. ومرة ثانية دعا حمدوك إلى تحويل الاقتراح إلى الجهات المختصة في حركة «تقدم» لدراستها.

قرار دراسة مقترح تشكيل حكومة في المنفى، على الرغم من عدم واقعيته لوقف الحرب، يبدو خطوة مدروسة لإضفاء شرعية عليه من قبل «تقدم»، ومن ثم الحصول على مباركة «الدعم السريع»، وأياً كان المكان أو البلد الذي يقبل استضافة حكومة سودانية في المنفى لا سند لها في الواقع السوداني، سيمثل الأمر خطوة لتعقيد الوضع وليس تفكيك عناصره، وأخطر ما فيه؛ أن حكومة في المنفى تعني أمراً واحداً، لا جدال فيه؛ أنه خطوة نحو التقسيم، وإغلاق نوافذ الحلول السلمية إلى أمد بعيد.

نقلا عن الشرق الأوسط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى